Wednesday, February 22, 2012

سننتصر

سننتصر (في جبال الجنوب)
Canon 60D - Canon 18-155mm
الصورة بتاريخ 31 اذار (مارس) 2014


حمل أولاده مسرعا ... بحث عن زوجته .. هي تضع بعض الأساسيات في حقيبة ... رأى  في عينها الذعر  و الإصرار على البقاء و حب الأولاد ... الأولاد و ما يحتاجه كل منهم على مدار الثانية !! ...  أسرع اليها ووضعها بحضنه ... و بعين واثقة و صوت ثابت قال لها: "بسرعة حبيبتي .. لازم نمشي من هون ... راح نرجع"  .. ابنته الصغيرة تشهق و تحاول إخفاء خوفها ... ابنه صامت تماما .. و نظرته الغاضبة لا يحركها أصوات الانفجارات البعيدة ... و القريبة

صور سريعة تمر في مخيلته لاقدام تنزل الدرج ... و امرأة ترفع صوتها بالدعاء: "الله ينصرنا .. الله ينصرنا"  ... هي لحظة العودة للواقع ... فقد أصبح أمام سيارته المتواضعة ... وضع الحقيبة و بعض الاكياس في الصندوق الخلفي .. زوجته وضعت الأولاد في الخلف و جلست في المقدمة ... و بدأت الرحلة

الطريق ملئ بالسيارات ... من كل الانواع و الألوان ... تمشي بشكل متراص و بطئ كموكب... المشهد تختلط فيه الجنائزية بالكرنفال ... مدينة الألعاب على اليسار مضاءة بالكامل ... و الألعاب جمعها تعمل، إحداها تدور بشكل عمودي .. و الأخرى بشكل أفقي ... فارغة تماما من أي زائر ... لزيادة الغرائبية على المشهد

أصبح الطريق أوسع قليلا .. و زادت سرعة الموكب أيضا .. نظرة زوجته لم تتغير ... الذعر و الإصرار على البقاء ... و حب الأولاد ... هي تضع قناعها و تتحدث الى الأولاد و تحاول تهدئتهم ...

هو ... يريد طمأنتها  ... شعر دائما بأنه يحمل مسؤولية إحساسها بالأمان ... لم يتخل عن تلك المسؤولية لحظة واحدة ... هو ... يحبها

ابتسم  ونظر باتجاه الأولاد و قال لهم: "احنا صرنا بأمان .. لا تخافوا" ... صوت الانفجارات ما زال مستمرا .. البعيدة منها .. و القريبة

أمسك يد زوجته  ...  و قال و هو يقود السيارة و ينظر أمامه: "خلينا نسمع موسيقا" ... صدمت زوجته .. اختلطت عليها مشاعر الدهشة و الاستغراب .. و ربما .. الخذلان ..   هل جنّ الرجل؟ هل فقد الإدراك بالموقف؟ هل توقفت مشاعره و أحاسيسه تماما؟ هل فقد الإحساس بالمكان .. و الزمان ؟ هل هي رحلة نحو المجهول ... و المظلم؟ أرعبتها الصور و الروايات و الذكريات التي تحفظها عن ظهر قلب عن اولئك الذين رحلوا .. و قام الزمن بتجميدهم في تيه الشتات بلا أفق ... رفضت ان يتحول الخيال و الذكريات الى واقع  ...  رفضت أن يحصل لها ذلك .... و لكن ...

"و لكنه يعشق الأولاد ..  ويحبني !!" ... هكذا قالت لنفسها

بحث بهدوء شديد في مكتبته الموسيقية الصغيرة التي يحتفظ بها دائما في السيارة .. أخرج احدى الأقراص المدمجة، ووضعها في جهاز التسجيل الحديث الذي اشتراه بحرص شديد، أهم ما في السيارة بالنسبة له، و بدأ صوت الموسيقى يتسلل الى الجو و العقل و الوجدان للعائلة المتواجدة في تلك السيارة .. و تماهت الموسيقى بشكل لم يستطع أحد تفسيره مع أصوات الانفجارات ..الانفجارات البعيدة .. لم يعد هناك أصوات قريبة ...

 و فجأة ..  وضع أشارة الاصطفاف نحو اليمين... كان المحيط ساحرا، الشمس في أخر دقائقها .. الجبال الخضراء تشرب بعضا من اللون الأحمر على أطراف أوراقها و تتلذذ .. كنبيذ أحمر صنعته الجدة بتقاليد تلك الجبال .. البحر هناك .. بعيد و جميل .. كالعادة

وقفت السيارة الى جانب الطريق و قال لهم: "اسمعوا منيح ..  هذا العازف الأمريكي ستان جيتز مع المبدع البرازيلي خوان جيلبيرتو  ..  نظر باتجاه زوجته بجانبه و قال: "و تغني معهم حبيبته استريد جيلبيرتو" .. تغيرت النظرة على وجه زوجته و ظهرت ابتسامة خفيفة .. ابتسامة انعشت قلبه ...
 شرح لهم سريعا عن موسيقا "البوسا نوفا" البرازيلية التي أسسها مجموعة من المبدعين في تلك البلاد ... و منهم خوان جيلبيرتو و كيف ظهرت تلك الموسيقا في قلب الصراع مع أمريكا و الاندماج و بداية التحرر  من  الرأسمالية و الاستعمار .. شرح لهم البعد الانساني و النبيل لتلك الموسيقا .. عن الأمل .. الأمل بالانتصار

هو قام بإخفاء بعض المعلومات .. الجزء الناقص من الحكاية هو أن المغنية استريد جيلبيرتو .. زوجة خوان ... بدأت حياتها كمغنية بسبب خوان نفسه .. فهو قد أحبها كما يحب الموسيقا ... و جعل منها نجما يملأ السماء  ... و لكنها و للأسف تركته و رحلت مع ستان جيتز الى أضواء امريكا ... جيتز الذي كان بربع موهبة جيلبيرتو  استطاع ان يعطيها الاضواء و الشهرة ... و لكنه لم يستطيع أن يجعل منها شيئا يذكر سوى بأنها صنعية خوان جيلبيرتو العظيم ... و في المقابل .. ما يزال خوان فقيرا ... و قام صاحب المنزل بطرده السنة الماضية .. هو يعيش الحلم المحطم ...
يتجرع خمر الخيانة ... و ما يزال ممسكا ... بالأمل ...

قام باخفاء بعض المعلومات ... فليس هذا وقت التحدث عن الخيانة ... نحن نعيش زمنا اخر على كل الأحوال ... و قد أصبحت الخيانة خلفنا... و سترحل قبل مجئ الغد 

ما تزال السيارات  تمر بجانبهم ... بسرعة أكبر قليلا ... و بشكل أقل انتظاما ... وضع أشارة التحرك ... نظر الى المرآة و تأكد من مساحة تسمح له بالعودة للشارع ... انطلق في رحلته مجددا ... كانت الشمس تنسحب في الثواني الأخيرة خلف البحر و تغني للأرض بوعدها اليومي للعودة مرة أخرى ... في الغد

أمسك يد زوجته ... و قبل رحيل الخيط الأخير للشمس مباشرة ... نظر لزوجته بعين ثابتة و صوت واثق و قال لها: "سننتصر"
Nikon F80 35mm, 70-200 Macro Lense, Kodak Plus films
سنابل الجنوب المحرر، من تصويري

فراس محادين
بيروت / 22 شباط 2012




No comments: