Friday, December 25, 2009

الساعة الثامنة صباحا


في الساعة الثامنة صباحا ... وصل الى موقف الباص .... كعادته ...

و كعادته أيضا ... في الصباحات الباردة ... حمل ذلك المعطف الثقيل على جسده ...

وجد بقعة من الشمس .. قرر التوقف فيها .... و لكن ...

إحدى الفتيات تقف في نفس البقعه ..

"أين سأقف؟" .. فكّر ...

"تلك الفتاة جميلة فعلا ... لم أرها من قبل" ... فكّر أيضا ...

هو ... يجب أن يقرر البقعة التي سينتظر فيها وصول الباص ...

هل سيقف خلف الفتاة.... ربما تظن أنه سيقوم بمعاكستها .... تردد ... ثم ... قرر أن يقف أمامها .... و هكذا كان ....

وقف بمعطفه الثقيل ... يراقب بدقه الأجساد الحديدية الضخمة التي تمر أمامه في الشارع ... بانتظار الباص المعهود ....

"هذا الصباح أكثر برودا من المتوقع" ... فكّر ... ثم شعر بالسعادة لايجاده بقعة الشمس تلك للتوقف فيها .... ابتسم ... ثم ....

تلك الفتاة خلفه ... فكّر ... كانت الفتاة جميلة حقا ... اراد النظر خلفه ... تردد .... نظر خلسة .... اراد النظر مجددا ... و لكن .... ربما سيعرف الموجودين في موقف الباص بأنه وحيد .... لم يرد ذلك .... ربما خجلا منهم .. و ربما خجلا من نفسه ... لأنه فعلا ... وحيد ...

قرر عدم النظر خلفه ... تمالك نفسه ... ثم ....

وصل الباص المنتظر .... صعد مباشرة ... و جلس على أحد الكراسي في مقدمة الباص ...

مشى الباص ببطء في شوارع المدينه ....

هو ... ظل طوال الطريق يفكر للتوصل لطرق مختلفه ليبرر النظر خلفه نحو تلك الفتاة .. كان يعرف أنها تجلس في الخلف .. فقد رآها و هي تصعد خلفه في نفس الحافله ... كان سعيدا بذلك ...و شعر بالحزن في نفس الوقت ... فقد تذكّر أنه وحيد الآن ...

مرةَ ... نظر خلسه ..

و مرة أخرى ... و هو ينظر من الشباك ... لحق بنظره حافلة أخرى .. و كأنه مهتم فعلا بتلك الحافله ... كان في الحقيقة يبحث عن مبرر كي ينظر نحو تلك الفتاة ...

و في مرة ثالثه ... بحث عن شيء ما في جيوب المعطف ... كان متأكدا تماما أن جيوبه خاليه .. و لكن ... كان ذلك يسهل عليه مهمة النظر نحو الفتاة دون أن يكون ذلك مكشوفا ...

لم يكن يعرف لماذا ... لم يكن يريد أي شيء سوى النظر إليها ... ربما شعر في تلك اللحظه باهتمام نحو شخص ما .... كان ذلك يكفيه ... ليعبر صباحه البارد ...

وصل الى محطة النزول ....

هو ... سيبدأ يومه المعتاد في العمل ...

* * *

في الساعة الثامنه صباحا .... كانت تقف في بقعة الشمس على موقف الباص ...

و لسبب ما ... كانت تشعر بالحيويه في ذلك الصباح ...

"أنا متأكدة أن الوشاح القرمزي يبدوا جيدا على المعطف الأبيض" ... قالت لنفسها .... كانت سعيدة بتلك الفكرة ... لم تكن متكلفه في ملابسها .... ولكن كانت أنيقة ..

جاء شاب بمعطف رمادي ووقف أمامها في المحطة ... لم تلاحظه في البدء ... فقد كانت تفكر في اللقاء مع أصدقائها بعد العمل .... تمنت أن يكون الجو مناسبا بعد الظهر ... سيكون من الجيد اللقاء في مكان مفتوح ...

هي ... تحب الأماكن المفتوحه ...

نظرت نحو الشارع ... في انتظار الباص ... لاحظت الشاب ذو المعطف الرمادي الواقف أمامها ... كان تركيزها منصبا في تلك اللحظه على ياقة المعطف لذلك الشاب .... كانت الياقة تحتاج الى تعديل من الخلف .... تمنت لو تستطيع تعديلها .... داعبتها الفكرة ... ابتسمت ...

"لا بد أنه وحيد" ... هكذا فكرت ...

هناك بعض الأشياء التي يمكن أن تشي بالتفاصيل الخاصة بحياتنا، كحكاية الياقة تلك. و بالفعل، لو لم يكن صاحبنا وحيدا، لكان هناك من يعدل لهذا الشاب ياقته من الخلف قبل أن ينزل. و الحقيقه المؤكده، أنك لا تستطيع أن ترى ياقتك من الخلف لو نظرت بالمرآة. و المؤكد أيضا، أن هذا النوع من التفاصيل يجذب دائما المرأة للتدقيق فيه .. لربما هو ما يسمونه "حاسة المرأة السادسة". و في قصتنا هذه، سيكون تأثير حكاية الحاسه السادسة للمرأة أكبر بكثير على صاحبنا الخائف من وحدته لهذه الدرجه ...

و على كل الأحوال ... وصل الباص ... و صعدت هي ...

في الباص ... جلست بجانب الشباك...

نظرت نحو الأبنيه و الحافلات و السائرين على الأقدام... فكرت بالكثير من الأشياء ... تذكرت الكتاب الذي كانت تقرأه قبل أن تنام ... وضعت يدها على حقيبتها .... و تأكدت من أنها ما تزال تحمله ... شعرت بالارتياح ... فربما يمكن أن تسرق القليل من الوقت للقراءة أثناء العمل .... هو عمل ممل على كل الأحوال ... و لا ضير من بعض القراءة ...

هي ... كانت تكره الكلمات المتقاطعه ... و كانت تكره أكثر من يقومون بالتسليه بها أثناء العمل ...

هي ... تكره الأشياء المكررة و النمطيه ..

ذلك الشاب ما زال في الباص يجلس أمامها ...و ما زالت ياقته بحاجه إلى تعديل ...

كان يلتفت يمينا و شمالا ... أصبح لديها بعض الفضول لتعرف شكله ... فهي لم تره إلا من الخلف ... كم تمنت أن ينظر ناحيتها.

الغريب هنا، أن صديقنا الذي كان يبذل الكثير من المجهود لينظر نحو الفتاة ... كان يبذل مجهودا أكبر كي لا ينبه أحد اليه.. مما منع الفتاة من رؤيته ...

عادت صديقتنا للتفكير بكتابها .. و فكرت أيضا بأول شيء ستقوم به عندما تصل للعمل ... كان لديها رغبه مفاجئه لشرب الشاي بالنعناع ....

لم تكن تشرب الشاي أصلا ... نظرت نحو صديقنا مجددا ... و فجأة ... توقف الباص .. نزل صديقنا مسرعا ... لحقته بنظرها ... لم تتمكن من رؤيته بوضوح ... فكرّت .. ربما سأراه على نفس الموقف مجددا....


فراس محادين

القاهرة – في 25 كانون الأول 2009


Monday, August 10, 2009

عامٌ على عام الغياب

(في ذكرى مرور عام على رحيل درويش)



لملمتَ أوراقنا ... و تركتَ الحصان وحيدا ..

بعد عام ...

انتظرنا طروادتكَ الحزينة ..
سمعنا صوتَ تلك الأغنية ..
سواء اعتذرت .. أم لم تعتذر ..

بعد عام ..
ما يزالُ سيف المهلهلِ يصدح من بعيد ..

بعد عام ..
تلفٌّ الساعات و الدقائق و الثواني بعكس التيّار ..

بعد عام ...
لم ينفض أحد التراب عن الأغلفه ...

***

كالنهايات الغير متوقعه..
كجرف صخري خلف شاطئ خفي ..
رحلت َ مرةً أخرى ... للشتاتِ الأخير ..

بعد عام ..
انتظِرنا ... و لا تنظر خلفكَ ..
هناك ... طروادة ليست حزينة ..
هناك .. طروادة ليست برسم البيع ..

***

استقبلنا صباحا آخر ... و آخر .. ثم آخر ..

بعد عام ..
ترحل الشمس مرة أخرى ...
و تأخذ معها العقارب و ما تبقى من الزمن ..

بعد عام ..
بعد عامٍ على عام الغياب ..

هدأ صوت البندقية ..
همست بعض السطور هنا و هناك ..

بعد عام ...
ما تزال طروادتك حزينة ..
و نحن ... ننتظر الأمس ...
ليأتي بك مرة أخرى ... هناك ..


فراس محادين
القاهرة – 10 \ 8 \ 2009

Saturday, June 27, 2009

ما بعد صباح ماطر



كم من المحزن ... الاحتفال بميلاد شخص ميت ...!!

حمل فكرته تلك ... و هم بالرحيل ...
استأذن الجميع ... و مضى في طريقه ..

شوارع خالية ... شتاء المدينة حزين هذه السنة !!
شعر بثقل في صدره .. و بشكل لا إرادي ... ظهرت ابتسامة غريبة على وجهه ....

لن يعود الشتاء كما كان .. بعد الآن .. !!

تذكر فجأة أنه بمشي بلا وجهة .... اختفت تلك الابتسامة ...

وبدأ يذكر ما حصل على تلك الطاولة .. قبل دقائق قليلة فقط ...

"شتاء المدينة حزين هذه السنة" ... قالت إحداهن ... بفستانها الأسود ... و كأس صغير في يدها ...

شربت الكأس حتى آخره ...
و شرب الجميع ... كان الكل يلبس الأسود ... إلا هو ..

كان الحزن يتلفح وجه الجميع .. حتى بعد ذلك الكأس ..


رأى طفلان يلعبان ببركة صغيرة من الماء و الطين ... من بقايا صباح ماطر ...

تساءل عن المتعة في ذلك ...

تذكر ... أنه في عامه الخمسين ..
و أنه الآن .. لن يفهم ..

تذكر ما حصل معه على تلك الطاولة ... قبل دقائق قليلة فقط...

كان المكان قد تغير تماما ... لم يتبقى إلا بعض الطاولات ... و ذلك البار القديم ...

على تلك الطاولة .. كانوا الزبائن الوحيدين .. ظهيرة ذلك اليوم ..

كان المكان ساكنا تماما ... و كذلك كانت تلك المجموعة ...

كان الصمت خانقا ..

رفعت أخرى كأسها ... و قالت ... "لن يعود الشتاء كما كان ... بعد الآن" ..

شربت الكأس حتى آخره ...
و شرب الجميع ... كان الكل يلبس الأسود ... إلا هو ...

كان الحزن يتلفح وجه الجميع .... حتى بعد ذلك الكأس ..

في الشوارع الحزينة بشتائها ...
مر بجانب تلك الحديقة ... بالأراجيح الفارغة ... و الأشكال الهندسية الغريبه بأعمدتها الحديدية الملونه ...

تغير لونها و أصبحت باهته ...

تذكر أنه كان يتسلقها في طقولته ..
تساءل عن المتعة في ذلك ...

تذكر أنه في عامه الخمسين ..
و أنه الآن ... لن يفهم ...

تذكر ... ما حصل معه على تلك الطاولة ... قبل دقائق قليلة فقط ...

اختبئت الشمس وراء غيوم ذلك الشتاء ... كانت بالكاد تضيء المكان ..
بجدرانه الصفراء ... الباهته ..

رأى انعكاسه في المرايا الكثيرة في ذلك المكان ...

كان شكله متطابقا تماما في كل هذه المرايا ...
رأى شعره الأبيض ...

كان الكل يلبس الأسود .. إلا هو ....

رفع كأسه أمامه ... و قال ...

"كم من المحزن الاحتفال بميلاد شخص ميت" ...

شرب الكأس حتى آخره ... و شرب الجميع ..

حمل فكرته تلك ... و هم بالرحيل ..


فراس محادين – القاهرة في 26\6\2009

Monday, May 11, 2009

حكاية لم تبدأ بعد


في البدء ...

نظر إليهم جميها .. كان الكل تائها ..

نظر إليهم ... لم يفهموه ...

بحث عن الأفق .. نظر إليهم مجددا ..
لم يفهموه .. أراد الذهاب هناك .. نحو ذاك المغيب ..

* * *

كتب حرفه الأول .. توالت الحروف بعد ذلك ..

ألقى عليهم بحروفه الأولى تلك ..

طربوا .. بحث عن أفقه .. بحثوا معه ..

جال الدنيا .. بحثوا معه ..

نظر إليهم .. و لكن ... لم يفهموه ..

* * *

رسم أول صورة ... رسم ذلك المغيب ..

انتشوا بتلك الصورة .. بحثوا معه ... عن ذلك الأفق ..

نظر إليهم .. لم يفهموه ..

* * *
توالت الصور .. تراكم السأم ..
نظر إليهم .. لم يفهموه ..

* * *

أمسك مزماره .. وصلوه ..
لحقوا به .. الكل لحق به ..

جال الدنيا .. بحثوا معه ..
نظر إليهم .. بحث عن ذلك الأفق ..

* * *

وضع مزماره جانبا ... ألقى بحروفه في البحر .. أحرق صوره ..

نظر إليهم .. و لأول مرة .. استطاع أحدهم أن يفهمه ..

و كان ... البدء ..



فراس محادين
القاهرة - 10 أيار 2009

Saturday, March 07, 2009

لون البحر


تساءلت عن لون البحر ذاك الصباح ..

غرزت أقدامها العارية في الرمال ...
غرست أقدامها أكثر .. غسلتها تلك الرطوبة الدفينة ..

أغمضت عيناها .. و تخيلت ... لون البحر ذاك الصباح ..

فتحت أعينها .. كائنات صغيرة تتقافز بجانب الأمواج .. تبتلعها الموجات .. ثم تظهر مجددا .. تحاول تلك الكائنات اللحاق بأمها .. تتقافز بأقصى سرعة .. تزايد انعكاس الشمس عليها ... تحولت إلى نقاط مضيئة تتقافز هنا و هناك ... كإحدى الحكايات الخرافية ...

لم تدرك .. أنها سرطانات بحرية .. ربما ستقدم لاحقا على إحدى الموائد الفاخرة ..

بحثت هنا و هناك ... رأت رجلها يلاعب أطفاله .. لحقت قطرات الماء المتناثرة على جسده الأسمر ..
أغمضت عيناها مجددا .. تخيلت جسده الأسمر المبتل بملحه و ملح البحر ..

تذكرت ..

تساءلت عن لون البحر ذاك الصباح ...

شبان و شابات يلعبون بين الأمواج .. صرخات مرحه هنا و هناك ..

لم تخجل من عري أولئك الناس .. بل ... ربما كانت هناك ابتسامة خفيفه ظهرت على وجهها ... ابتسامة لم يراها أحد ..

شعرت بالاتزان التام مع كل ما يحيطها ..
هدأت كل الأشياء حولها ..

اتكئت على أحد أطرافها .. وبحركة سريعة ... رفعت ذلك الخمار الأسود .. نظرت ... عرفت لون البحر ..

ابتسمت ... غرزت يدها في الرمال ... عاد خمارها إلى مكانه ..

رطوبة الرمال تلسقت جسدها ... كقطرتين باردتين من الماء على صدرها ..

في تلك اللحظة .. كانت هناك .. كيان متشح بالسواد ..
على ذلك الرمل الأصفر .. و خلف الموجات ... ما تزال تلك النقط المضيئة تتقافز أمامها ...

في تلك اللحظة .. كانت هناك ...
كيان متشح بالسواد ... بين تلك الألون ..

تحت ذاك السواد .. أغمضت عيناها .. لترى لون البحر ..
و ابتسمت ...



فراس محادين
القاهرة - في 7 آذار 2009