Tuesday, April 03, 2012

ذاكرة


أهرام القاهرة - من تصويري
 - Nikon f65 35mm, 28 - 80 mm lens, FUJI 100 film
عبرت صباحي كما كل مرة، متأملا بحذر شديد لكل ما يحيط بي .. في طريقي للعمل، و بغض النظر عن الوقت الذي صرفته في المنزل قبل الخروج، سواء كان بضع دقائق عجولة، أم استيقاظ بطئ و شرب القهوة و سماع الموسيقى  ... و بغض النظر عن ذلك ...  في الطريق للعمل هكذا أكون ... أكبر بالعمر مئات السنين، بهدوء و حكمة .. أدقق في التفاصيل ... التفاصيل الصغيرة ... و أبحث عن سكون قد أدركه...

سيارات تمشي في الزحام باستعجال بطئ حد الدهشة .. و حولها تمر العربات يجرها فقراء المدينة، تحمل ما تيسّر .. ذرة مسلوقة، أو مشوية .. فجل و خس .. فراولة .. برتقال .. لوز أخضر .. فول و ترمس ... كل ما يمكن بيعه "موسميّا" .. كل ما يريده الناس ...  و بحسب الموسم .. و الشهية

اسمع أحاديثا في المواصلات .. التذمر اليومي من كل شيء .. التذمر من التذمر .. حكايات الحب القديمة من سائق عجوز  ..  و مغامرات عاطفية من اخر ...أو عن الجار الذي استيقظ مبكرا ذات مرة و صنع "المناقيش" لكل الحي، و قام بإهداء جيرانه ما صنع ... بيتا بيتا، و توفي في اليوم نفسه، في أجمل وداع للحياة على الاطلاق... كأجمل الأحلام

تمر السيارات بنفس البطئ المتعجّل، و الى جانبها الفقراء و عرباتهم غير عابئين بقوانين المدينة ... الاشارة الحمراء لا تعنيهم .. عرباتهم لن تؤذي أحدا على كل الأحوال. هذه العربات، السمة المتشابهة في جنوب العالم، عند رؤيتها تعرف مباشرة انك في الجنوب و لست في بلاد الرجل الأبيض.. هذه العربات هي روح الجنوب .. جنوب العالم .. هي علامة الفقراء و رمزهم الأوحد ..

في القاهرة هناك علامة تميز عربات تلك المدينة تحديدا،  ترصف الأشياء في عربات القاهرة بشكل الهرم .. كل شيء يرصف على شكل الهرم .. البطيخ و البيض و الفستق السوداني و الطماطم و الخيار و كل شيء. في اشارة اعتزاز و فخر بتلك الهوية، بذلك التفوق الذي سبق العالم بالاف السنين ... أهرام الجيزة في مصر العربية و أهرام الازتك في أمريكا اللايتينة صنعت في وقت واحد من تاريخ البشرية .. و كان ذلك قبل الاف السنين .. و في بلاد الرجل الأسمر .. لا الرجل الأبيض ... 

ذلك المشهد وحده يجعلك تدرك أنك في القاهرة، رصف الاشياء في العربات و بالشارع بشكل هرمي، و كأنك تشاهد الأهرام أمام عينيك مباشرة، فتدرك أنك هناك و في ذلك المكان.
عندما تشاهد الهرم خارج القاهرة ستعرف مباشرة بأن القاهرة نفسها زارت هذا المكان...سواء خلال مواطن مصري عبر بفقره من مكان لاخر ... أو اعتراف مباشر من الرجل الأبيض بذلك التفوق و محاولة تقليده في احد المتاحف أو الساحات العامة. و هناك نوع اخر .. المسكوت عنه .. الجماعات السرية التي سرقت الرمز، و هي تدرك بأن الهرم رمز العظمه و تفوق الحضارة الانسانية و هي تعمل على الانتقام من ذلك التفوق بتحطيم الاخر بكل ما تملك من قوة ... و كيف لا .. فقد أثبت الرجل الأسمر بأنه متفوق أخلاقيا و حضاريا، هو أحضر النور الى العالم ... و العلم و المعرفة ... الرجل الأبيض لم يحضر سوى القتل و الجريمة ...  هذا هو الواقع .. هذا تاريخ الانسانية و ليس انطباعاتي الشخصية،  و ربما هو سبب الرغبة الدائمة عند الرجل الأبيض لتحطيم الاخر و تدميره لاستبدال النقص الحاضر في كل لحظة في الوجدان و الذاكرة.. 



الذاكرة .. العربات في القاهرة هي ذاكرة المكان .. هي التمسك بالهوية .. كما هي العربات في كل مدن جنوب العالم .. تحمل ذاكرة المكان .. و غربة الفقراء عن المدينة

في بلاد الجبال ... ترصف الأشياء على العربات كيفما اتفق .. كالجبال .. صدفة الطبيعة الأجمل .. و الأكثر قسوة .. هذه الجبال هي ذاكرة الأرض .. و تلك العربات .. هي الذاكرة المنسية للمدينة

في الطريق للعمل، و بعد تجاهل أحد الأحاديت النمطية و المكررة حد التخمة .. رأيت احدى العربات تحمل مجموعة من أجهزة التلفزيون المكعبة القديمة ... نعم .. هذه تجارة موسمية فعلا .. فحتى تلك العلب البلاستيكية أصبحت موضة قديمة .. و ستذهب بشكل مؤقت لفقراء المدينة .. في دورة جديدة و موسم جديد و اجهزة جديدة !! ـ

نعم .. هذه الأجهزة تخلق ذاكرة جديدة ... لقد أصبحت ذاكرتنا بلاستيكية!!!ـ

أ
فكر بماذا سيحدث بعد مئات السنين (أو ربما العشرات منها) ... و أتخيل أن ما تبقى من البشر على الكوكب سيحاولون دراسة هذه الذاكرة البلاستيكية تحديدا ... العشرات و المئات من الباحثين يدققون في نتاج هذه المرحلة ... أفلام و برامج و أخبار .. مواقع الكترونية عامة و شخصية .. قطع موسيقية ..... محاولات للابداع و اخرى لتضييع الوقت ... ذكريات شخصية ..صور .. و كلمات .. يبحث هؤلاء عن السبب الذي أوصل للكارثة ... في محاولة لاستئصال ذلك السبب من الذاكرة .. و الوجدان .. و للمرة الأخيرة

ربما يبحث هؤلاء في نفس الوقت بشكل يائس عن ما تبقى من الأمس ... لن يحصلوا على رائحة الربيع بالتأكيد ... أو الحنين لحكايات الجدة كما كنّا ... أو الاختباء بحضن العائلة حول المدفأة في يوم شتائي ... كيف تخبر أحدهم عن حنين الخريف و هو لا يعرف الخريف من الأساس ... لقد فاتهم الكثير ... و أنا أشكك بقدرة الذاكرة البلاستيكية على نقل روحنا .. و الهوية
ربما ... سيقرأ أحدهم هذا الكلام حينها... من قبيل الصدفة بالحد الأدنى .. و ربما ... سيبكي ذاك الغريب في تلك اللحظة ... حنينا لماض خسره ... و حزن علينا، نحن من شاهد الكارثة بعينيه  بعجز تام

حينها لن أكون موجودا ... و انقل اعتذاري اليه عبر هذه الكلمات .. و احتضن دموعه.. و اتفهمها تماما ... و ادرك الدهشة المتولدة لديه الان .. فالحكمة و المعرفة هي ما نخسر كلما ابتعدنا عن الطبيعة .. على عكس ما توقع الكثيرون  

من حظنا ان نشهد تلك الأيام الأخيرة .. و من حظنا السيء في نفس الوقت .. أن نشهدها!!ـ

لم يدرك الرجل الأبيض بأن البحث عن الانتقام مثير للشفقة ... فهو ببساطة .. لم يقرأ التاريخ جيدا ... لم يلحظ بأن من بنى تلك الاهرامات و تفوق على البشرية بالالاف السنين .. هو نفسه من حطم تلك الحضارة ... و أبقى على الأهرام لتذكير البشر بما استطاع أن يفعل ...
لم يدرك الرجل الأبيض .. بأن اختفاء الذاكرة للمرحلة الانتقاليه بعد بناء الاهرام لم يكن عبثيا .. أو من باب الصدفة ..  بل كان قرارا حضاريا و انسانيا .. قرره الأزتك و الفراعنة و هم يدركون ما يفعلون .. هم أبناء الشمس .. تجاوزوا بالاف السنين ما يطمح الرجل الأبيض الوصول اليه... هم قرروا العودة للطبيعة .. و تذكير البشرية بالخطيئة الكبرى ... بغرور الانسان العبثي المجنون ... تلك الاهرام لم تكن سوى مقابر.. لاعلان المصير النهائي للبشر ... و هو سر الوجود .. و جوهر الحقيقة ... 

فكرة الخلود تتحول لذاكرة .. و الجسد يتحول لصنم محنط أو مصنوع من الذهب ... الخلود على الأرض هو للذاكرة .. للذاكرة فقط و لا شيء غير ذلك

يحاول الكثيرون التغاضي عن تلك الحقيقة .. و لكنها تبقى ثابتة .. صامدة في وجه التخمينات و التوقعات و الفبركة ..

العربات في القاهرة تحمل الرمز و تعلن الهوية ... و الفقراء يتحدون قانون المدينة .. و يحلمون بالطبيعة و الذاكرة .. كالفقراء في جنوب العالم  .. و في كل مكان .. يراقبون بصمت .. بانتظار الثورة الحقيقية .. للتخلص من غرور الرجل الأبيض .. للتخلص من الهمجية...من القتل ... من الحزن المفروض بالقوة .. من شطب الذاكرة .. للعودة ... للطبيعة

أعبر صباحي  كما كل مرة ... عند وصولي للعمل أعود و أحاول التغيير بالطرق التي اتقنها.. قد ننجح بتأجيل الملحمة الكبرى...و أعتقد أننا نجحنا بذلك الى حد كبير ... و لكن .. حتى اللحظة ... لست متفائلا بأكثر من ذلك ..

أكتب هذه الكلمات من وقت لاخر ... و اتشبث .. بالذاكرة 

فراس محادين
بيروت – 3/نيسان/2012